aren

الاستعمار النضِر والمستعمَرة الخرِبَة \\ كتابة : جهاد الزين
الخميس - 10 - سبتمبر - 2020

ةشؤقخى12

صار من الصعب في لبنان استخدام تعبير “السيادة” دون الشعور بنقصٍ لا في المعنى فقط بل في الجدوى أساساً. لقد أصبح لبنان عرضة للانتهاك الداخلي للسيادة أكثر بكثير من عرضته الخارجية. وما تنبغي إضافته هنا أن التجربة علّمتنا أن فكرة السيادة نفسها يذبحها الامتهان الداخلي بعنف قد يتجاوز الامتهان الخارجي. وأنا أستخدم “قد” هنا بالكثير من التردد أخذا بعين الاعتبار مزاج يومياتنا الحالي في لبنان.

لماذا لم تعد تثير فكرة الوصاية الدولية على لبنان أي إجماع رافض؟ الجواب في تراكم فشل الادارة الداخلية بما يجعل المواطنية مشروعا دائما للجوء إلى مواطنية أخرى، من جهة، وبما يجعل السيادة مشروعا دائماً للحماية من فساد الداخل من جهة ثانية.

لا أعرف إذا كانت مؤسسة بحثية ما قد قامت باستطلاع بين شباب جيل 17 تشرين حول معنى السيادة الوطنية بالنسبة لكلٍّ منهم. على أي حال هذا اقتراح نقدمه لبعض المؤسسات الرصينة. لا نستطيع طبعا تقدير الإجابات ونِسَبِها لكنْ بالمواصفات التي باتت معروفة لهذا الجيل المتعلّم والرافض فإنه قد يكون علينا تصور آراء صادمة في مدى جدوى السيادة في دولة فاشلة.

لم تمر مطالبة بعض اللبنانيين بعودة الانتداب الفرنسي على لبنان، وبينهم مسيحيون ومسلمون على التلفزيونات ووسائل التواصل الإجتماعي، باستنكار جدي من قبل لبنانيين آخرين، سوى بعض الأصوات التي لا تزال ترن عندها كلمة “السيادة” كما لو أننا في بلد لا تُنتهَك كرامته يوميا في النفايات المنتشرة والكهرباء والفساد وأحد آخر أكبر فصوله المعلَنة عمولة الخمسة بالمائة على المبالغ التي قبضها مقاولون من إحدى الوزرات. هذا فساد عادي كبير لأنه بعد انفجار مرفأ بيروت صار يجب التمييز بين الفساد الشامل والفساد الجزئي كالتمييز بين أسلحة الدمار الشامل والأسلحة التقليدية.

لو جرى استفتاء جدي للنخب اللبنانية عبر لجنة “كينغ كراين” أميركية جديدة كالتي أرسلها مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 إلى سوريا وفلسطين لاستفتاء سكانها حول الخيار الذي يريدونه لمستقبلهم لكان الجواب الأوسع هو الدعوة إلى وصاية دولية على لبنان ولاسيما عبر فرنسا.

اللجنة المذكورة حملت معها إلى واشنطن يومها تقريرا يعكس بنزاهة خيار أكثرية سكان سوريا بقيام وحدتها ورفض إقامة دولة لليهود في فلسطين.

لن يحتاج الفرنسيون لرشوة أي سياسي أو ناشط في الشأن العام كي يطالب بانتدابهم على لبنان كما فعلوا قبل مائة عام حسب ما يروي اسكندر رياشي في كتابه “قبل وبعد” ويقول أنه هو كان الشخص الذي سلّمته المندوبية الفرنسية الأموال لتوزيعها على اللبنانيين انطلاقا من زحلة.

كان ذلك في ذروة الصراع البريطاني الفرنسي على المنطقة ومحاولة الفرنسيين تثبيت أقدامهم في سوريا مقسّمة إلى دول عدة، وأبرزها لبنان الكبير أي المتصرفية زائد الأقضية الأربعة حاصبيا راشيا البقاع بعلبك زائد مدن صور وصيدا وبيروت وطرابلس و بعض أريافها وملحقاتها.

كم تغيّرت الأزمنة. صار حلمُ معظم اللبنانيين وصايةً دولية ما على بلدهم بعدما سقطت الطبقة السياسية التي أدارت شؤونهم خلال الحرب الأهلية وما بعدها إلى حضيض أخلاقي وفشل سياسي يكاد يدمر لا بُنى دولتِهم فحسب بل الشعب اللبناني نفسه كما أظهر انفجارُ مرفأ بيروت في 4 آب.

كان لبنان “مستعمرة” رائعة، مليئة لا فقط بالعاصمة المزدهرة بل أيضا بالعداء المزدهر للاستعمار!فاحت نضارة هذه “المستعمرة” على مساحة أكثر من عشرة ملايين كيلومتر مربع هي مساحة مجموع العالم العربي الذي كان الذين يزورون لبنان منه، يعتبرون أنفسهم محظوظين أكانوا سواحاً عاديين أو رجال أعمال أو طلاباً وسواء كانوا معادين للاستعمار في الجزائر واليمن والمغرب ومناضلين ضده، أو مثقفين وشعراء وأساتذة جامعات. كانت مستعمرة سعيدة لو أن بعض نخبها “كان يشعر بالخجل” من أن يكون سعيداً وفلسطين غارقة في ألمها وبؤسها كما قال مرة تقي الدين الصلح لسليمان فرنجية الجد في أحد اجتماعات مجلس الوزراء اللبناني.(نقلا عن المرحوم تقي الدين الصلح الذي سمعها منه كاتب هذه السطور).

صارت “المستعمرة” السعيدة خرِبة. ولم تصبح فلسطين أقل بؤساً. أما المستعمِر الذي احتلها وأسّسها فلا زال دولة كبيرة ذات مصالح كبرى في العالم. وهو يأتي إلينا، عبر رئيس الدولة مانويل ماكرون، وقد أصبح رئيسا لمئات آلاف اللبنانيين الذين حصلوا على الجنسية الفرنسية ويعيش معظمهم على الأراضي الفرنسية مواطنين صالحين وناجحين. هذا يعني تغيّراتٍ عميقة. فلا المستعمِر مستعمِر ولا المستعمَر مستعمَر. أخذت المستعمرات السابقة – الدول المستقلة اللاحقة فرصها الزمنية الكافية لتُظهِر قدراتها على حكم نفسها بنفسها. نجح بعضها وفشل الكثير، لكن الشرق الأوسط شهد نسباً عالية من الفشل وأشكالاً مختلفة كان لبنان بين أصعبها وأعقدها.

أجزاء من مزارع شبعا ( اللبنانية أو السورية)لا تزال محتلة من العدو الإسرائيلي. لكن نفايات كوستا برافا والكرنتينا تجعل السيادة عندنا ذات رائحة كريهة وتبعث غازاتٍ سامةً من المفترض أن لا تبعثها الكرامة الوطنية المهدورة. سيادة من يظنون أنهم يتكلمون باسم السيادة.

هنا هنا في هذه النقطة يكمن أحد مستويات التحول الأعمق بين إرث القرن العشرين التحرري من الخارج ووقائع القرن الحادي والعشرين التحرري من الداخل.

“النهار”اللبنانية