aren

قراءة في رواية سيدات القمر - اول رواية عربية تفوز بجائزة مان بوكر: إنصات عميق لنبض القاع الاجتماعي ورصد إثنوغرافي لظواهره السوسيوثقافية
الجمعة - 24 - مايو - 2019

\التجدد الاخباري\

فازت الروائية العمانية، جوخة الحارثي، بجائزة “انترناشيونال مان بوكر” البريطانية المرموقة، عن روايتها “سيدات القمر”. وتتحدث الكاتبة في روايتها هذه ، عن مرحلة مهمة من تاريخ سلطنة “عُمان”، وتدور أحداثها بقرية “العوافي” في السلطنة، حيث تواجه ثلاث شقيقات : (مايا )، التي تزوجت من (عبد الله) بعد مشاكل كثيرة، و(أسماء)، التي تزوجت فقط كواجب اجتماعي، و(خولة) ، التي تنتظر حبيبها الذي هاجر إلى كندا، وتعكس قصص الشقيقات الثلاث ، تطور عمان من مجتمع تقليدي ، يمتلك العبيد إلى حداثة معقدة.

جوخة

وقال المحكمون في بيان “إنها منظمة ومبنية بأناقة وهي تحكي عن فترة زمنية في عمان من خلال مشاعر الحب والفقدان داخل أسرة واحدة”.

iolo

وبعد فوزها بهذه الجائزة، تعتبر الحارثي ، “أول” كاتب عربي ، ينال هذه الجائزة رفيعة المستوى ، وستحصل الفائزة ، على (60) ألف دولار قيمة الجائزة ، وتتقاسم المبلغ مشاركة مع الأكاديمية الأمريكية والأستاذة بالأدب العربي في جامعة أكسفورد، (مارلين بوث)، التي ترجمت رواية “سيدات القمر” من العربية إلى الإنجليزية.

 

 

 

o,[m

جوخة

تجدر الإشارة إلى أن 6 أعمال، صادرة بلغاتها الأصلية وتُرجمت إلى الانكليزية، تنافست على الجائزة هذا العام، وأعلنت لجنة الجائزة أن هذه الأعمال التي ترجمت من 5 لغات : (العربية والفرنسية والألمانية والبولندية والإسبانية)، ترجمت كلها على يد مترجمات. يشار إلى أن الكاتبة العمانية ، جوخة الحارثي ، لها (3) روايات ، ومجموعتان قصصيتان ، وقصتان للأطفال، وفازت روايتها “نارنجة” عام 2016 بجائزة السلطان قابوس “للثقافة والفنون والآداب”.

هنا، نقدم لقراء الموقع قراءة نقدية في رواية “سيدات القمر”

بقلم الناقد \ إبراهيم الحجري\

تشكل رواية “سيدات القمر” للروائية العمانية جوخة الحارثي،توجها متميزا في السرد الروائي العربي،بالنظر إلى طبيعة محكيها ،اللافت للانتباه، والذي يغرف من القاع والهامشي والمنسي.

تتتتت-423x330

الحجري

وإذا كان الروائيون العرب -في الغالب- يتجهون صوب عوالم المدينة بتعقد بناها التحتية ،السكانية ،والمجالية، وفورة أحداثها ،التي تتوه بالإنسان المعاصر في مساربها الجهنمية، قصد استلهام محكيهم ، معتقدين أن الرواية لا تصلح إلا لمجتمع حضري متشعب ومعقد.

فإن جوخة ، ذهبت عكس ذلك إلى قرية هامشية بدوية من (عمان) اسمها “العوافي”، وأسست عالمها الروائي من خلال تفاعلات هذا المجتمع الكبير ،الذي حتما سيكون عينة ممثلة لمجتمع كبير، فما يدور بقرية صغيرة في العالم من أسئلة وحكايا ،وهموم إنسانية ،هو نفسه ما يدور في عالم كبير ،قد يكون عمان ،أو أي بلدة عربية نائية.

والأروع في هذا المتن الروائي ،هو العمل الإثنوغرافي الجبار ،التي تضعه بين أيدينا الروائية عن مجتمع بعيد منا ، ولا نعرف تفاصيله الدقيقة ، فقد وفقت في رسم معالم قرية ، بالشكل الذي يجعلنا ذهنيا ، نقترب من الثقافة المحلية وأشكال التفكير والبنى العقلية لعناصر المجموعة البشرية ،التي يصورها المحكي \ الروائي، خاصة فيما يتعلق بأفعال النساء وتصوراتهم وعلاقاتهم بالرجال، وطرق تمثلهم لطقوس الولادة والموت والتطبيب والطعام واللباس ، وغير ذلك من العادات والتقاليد.

وقد كانت الروائية ذكية في جعلنا نحب الناس والمكان ، بالرغم من المشاكل السرمدية ، التي يحياها هؤلاء في عزلة عن العالم المحيط. هذه العزلة التي تقودنا إلى التفكير بأن هناك أناس ما زالوا يمشون ببطء الحلزون، ويعيشون عيشة بدو الصحراء في القرون الوسطى ، بعيدين عن ضوضاء المدنية والعولمة، حيث لا تصلهم مواد الماركوتين ، ولا شمس السوبر أسواق الصاخبة. هم يحبون هذه البساطة ، ويتمسكون بها ، ويعرفون كيف يلتذون بها، أو لنقل إن لا أحد دعاهم ، أو عرض عليهم تغيير هذا الزي.

لقد افتقدنا في السرد العربي الروائي ، لذاك النفس الطويل، الذي يقدم للقارئ مادة ثرية للتأمل والحوار مع الذات من خلال ما يروى ، أو مايسميه (محمد) برادة ، بالتشخيص ، أي أن نرى ذواتنا في المرآة. ورحنا ونحن نقرأ الروايات الجديدة ،نتوه في مسارب ومتاهات لا تضعك في جوهر التأمل العميق في مثل هاته الأسئلة. على عكس هذه الرواية ، التي لا نستطيع -مهما ادعينا- أن نلم بكل القضايا، التي تطرحها بشكل أو بآخر .

فقد كانت الروائية، وهي تصارع زحمة الأسئلة المقلقة ،التي تعذبها أولا كذات معنية بالمتن، فراحت تقدم هذه القضايا في شكل فلاشات أو برقيات على أساس أن المتلقي يفهم الإشارة ، وهو غير بعيد كل البعد عن هذا المتخيل الأشبه بالواقع ، فقد أحسست أن الروائية في بعض الأحيان ، كأنما تحكي عن (زاكورة) أو (تنغير) أو (لبيادرة) أو (الزاوية) بقاع المغرب العميق.

لذلك ، فالمحكي ينطلق من الهامشي ، وينبثق عن قرية العوافي ،كي يتسع ليشمل الإنسان الكوني. ولا فرق بين “ميا” و”علي بن خلف” و”خولة” و”أسماء” و”ولد سليمان” و”سالم” و”محمد” و”ناصر” و”لندن” ، وبين أي بشر في هذا الكون ، فكل الناس يعانون مع الفقر والموت والمرض والشوق والألم ، ويحنون إلى الأحبة ويصارعون من أجل البقاء،لكن بأشكال مختلفة. القضايا واحدة والأساليب والأشكال ، والتصورات تختلف.

لقد صورت الكاتبة بدقة أسئلة المرأة العمانية، ببساطة تفكيرها وطريقة تعاملها مع الأوضاع والحالات التي تواجهها ساخرة حينا ومشفقة أخرى ، ومن الأمور التي قضت مضجع المحكي الروائي ، بخصوص المرأة:

– قضية الاغتصاب ما تتعرض له المرأة من عنف جسدي وجنسي من طرف الرجل.

– الآم وطقوس الولادة والتصورات المحيطة بفكر الناس عن النفساء في هذه الفترة.

– مشاكل الزواج والطلاق والأولاد والترمل…

– ما ترزح تحت نيره المرأة من أتعاب شتى تفوق قدراتها الجسمية.

– قضية الموت والمرض وما يترتب عنها من آلام وتبعات.

– السؤال الثقافي المتعلق بالمعتقد والميتافيزيقا والغيب وغيرها “المتخيل الشعبي التقليدي”.

– قضية ضعف نسبة تعليم الفتاة في العالم القروي.

وتكمن أهمية هذا الرصد الدقيق لتفاصيل واقع معاش في مدنا ، بمادة هامة ، تتيح مقارنة أوضاع المرأة في العالم العربي والدولي بصفة عامة.

وأهم ما يغري بالتأمل في المتن الروائي ، هو الإشارات الإثنوغرافية عن المجموعة البشرية المستهدفة، حيث نجد رصدا دقيقا عن الاعتقاد السحري الرائج لدى النساء، وطبيعة الأمراض الغيبية المرتبطة بوضعيات إنسانية معينة كالولادة والزواج مثلا: “انتصبت ظريفة واقفة وبدأت رحلة العودة إلى العوافي، هذا المشوار قامت به قبل يومين فقط من أجل أن تبعد الضرر أيضا عن زوجة ابنها النفساء وحفيدتها، وقامت به أيضا قبل ذلك مرات ومرات وكان النجاح حليفها دائما، ولم تغضب الجنية بقيعة لا في مدة تخصص ظريفة في خدمتها ولا في عهد أمها من قبلها. تنهدت ظريفة: “إلا في تلك المرة سحروا أم عبد الله وهي في النفاس”. من قبل ظريفة قامت أمها بهذا الواجب ، ومن قبل أمها ، قامت به جدتها. وكلهن يعرفن أدق الأسرار عن بقيعة الجنية التي تختص بافتراس كل نفساء لا تطعمها من طعامها” ص 32.

وتوغل الرواية أكثر في تعرية الطقوس الخرافية، التي يؤمن بها بدو العوافي، فتحكي عن تخوف النساء من الأكل مع المرأة النفساء، خاصة منهن البنت البكر، والتداوي بالحروز، وبخ الطفل والبصاق عليه عند ولادته حماية له من الشرور المتربصة به في هذه اللحظة وحفظا له من أم الصبيان عدوة الأطفال، والاحتياط من ضرب الجن، وفسخ السحر، والتصدق وذبح الشياه من أجل الاستشفاء، وتضرر الميت من اللغط والصراخ، والتطير “ليش يا حبة عيني تريدي أن تسميها على اسمي وأنا حية أرزق… تتفاءلي لي بالموت؟ من أجل أن تخلفني البنت؟” ص 6

كما تروي لنا عن بعض الظواهر الاجتماعية والإنسانية، التي تميز شعب العوافي ، مثل تقميط الأطفال، إكراه الفتيات على قراءة القرآن في رمضان، والتبرز في الخلاء، ولعبة الغميضة، وطرد الصغار من مجمع الكبار، وتدخل الأسرة في اختيار الزوجة لابنها، والصورة المخجلة للتاجر في التصور الشعبي، والصراع بين الأب وابنه وتعارض أفكارهما، فضلا عن الوصف الدقيق لطقوس العيش والسمر في الصحراء، وعدم السماح للفتات غير المتزوجة بمجالسة المتزوجات “لا يحق لها كفتاة غير متزوجة أن تجالس النساء المتزوجات وتستمع لأحاديتهن”ص 14

وتوظف الكاتبة،الحلم ،لتسبر أغوار الشخوص ونظرتها تجاه الميت والموت عبر تقصي اللا شعور: “رأيت أبي في الحلم محمر العينين من شدة الغضب، رأيته يلوح في وجهي بحبل الليف وهو يسألني عنها”، “رأيت أمي في المنام، رأيتها ملتفة بغطاء ابيض سابغ وتمشي على الماء، وأنا أمشي وراءها وأناديها” ص 42.

وللإشارة فالمشي على الماء ، ظاهرة مستلهمة من السرد الصوفي ، وتستعين كذلك في رصد خصوصيات الثقافة المحلية ، بتضمين النص بعض الحكايا الشعبية مسرودة على لسان أحد الشخوص باللغة الدراجة المحلية ، التي تشرح الكاتبة فحواها أحيانا في شكل هوامش وحواشي على النص: “وظريفة تمسد شعري وتحكي: كانت عنزة تسكن في بيتها مع أولادها وأكبرهم زيد ورباب….” ص 115… وغيرها من الأشياء ، التي تستحق دراسة عميقة ، حول المعتقدات التي تتخذ من الديني ، أو الخرافي أسسها.

وتلتفت الروائية الى ذكر ظاهرة الرق النسائي، حيث وجود الخادمات اللواتي يستغللن في أشياء كثيرة. وهي ظاهرة تنتشر في المشرق العربي بكثرة، بل وحتى بعض البلدان العربية الأخرى من غير سن لقوانين صارمة حفظ لهن كرامتهن. إن الرواية تسعى حقا للدفاع عن الأطروحة النسائية في شتى تجليات مشاكلها وهمومها ، مكتفية بعرضها دون التعليق عليها ،تاركة ذلك للقارئ وفية بذلك لنهجها الإثنوغرافي.

وقد استعانت الروائية بالوصف الدقيق لعناصر ومكونات العالم الروائي، مستعملة لغة ميسرة مخضبة في كثير من الأحيان باللغة المحلية ومقحمة أيضا لبعض المفردات ، التي تتداول بكثرة في العوافي، مترجمة لفحواها في الهوامش النصية. كما استلهمت الروائية ، الشفهي الشعبي ، مثل الحكاية الشعبية والمثل “لا في العير ولا في النفير” والشعر والأغنية المحلية، متناصة في بعض اللحظات مع اللغة القرآنية “ناقة الله وسقياها” ص 32. والملفت للنظر ، الطريقة التي بنت بها جوخة الأحداث.

ومع أنها غطت فترة زمنية تزيد على قرن من الزمن، أعادت خلالها كتابة التاريخ المنسي بشكل أدبي لا يخلو من روح النقد والتجريح، ظلت ذاكرة النص قوية ومرتبة بشكل يوحي باشتغال دؤوب للروائية على مادتها، وهذا التناسق في الأحداث، والانسجام في التصور والرؤيا للأسف ، أصبحنا نفتقدها لدى كثيرين من روائيينا.