ماحدث في تونس قد جدد النقاش حول مصائر العمل الديني الإسلامي. وأنا في ما أكتبه عن الحركات الاسلامية أميز بين مصطلحين: المسلم والاسلامي. والمسلم هو من يتعاطى مع هويته الدينية كما يتعاطى المسيحي مع ديانته، أي كرأسمال رمزي من المعاني والقيم يستلهمها في حياته الشخصية والمهنية، أو كمنظومة من العبادات والطقوس والعادات لا تمنعه من الانخراط في العالم الحديث والافادة منه للمشاركة في صناعة الحضارة. أما الاسلامي فهو صاحب مشروع لإقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة، أي كنظام للحكم ومنظومة للحقوق، أو كنمط للحياة والوجود. انطلاقاً من هذا التمييز، فإن مصطلح “الما بعد” لا يُحمل على الاسلام الذي هو باق، كسائر الديانات، وإنما يطال محاولات أسلمة الحياة، كما يفكر ويعمل الاسلاميون، دعاة ومجاهدين، فهي التي تكتب نهايتها وعلى يد أصحابها بالذات. هذا ما حاولت تبيانه في كتابي: الجهاد وآخرته، ما بعد الأسلمة (2018).

نحن إزاء مشروع محكوم عليه بالفشل منذ البداية، بالرغم من صعود الاسلاميين على المسرح، واستلامهم السلطة في عدد من البلدان، وبالرغم مما مارسوه من التشبيح والشعوذة أو الاستبداد والارهاب. والفشل تبدّى أولاً على المستوى الفكري. لأن الاسلاميين ليس لديهم أفكار ومعارف جديدة لإدارة البشر وتنظيم المجتمعات أو لتسيير المصالح وقود المصائر. ولهذا فقد أخفقوا في استحقاق النهوض والانماء، كما في استحقاق الحريات الديموقراطية. ولا غرابة. فأساس مشروعهم هو دفاعي تبجيلي في ما يخص علاقتهم مع الذات، وهجومي عدواني في ما يخص علاقتهم مع الآخر والغرب والحداثة. ولهذا فإنهم، وبعد أكثر من قرن، لم يفتتحوا حقلاً للمعرفة أو يخترعوا نظاماً للحكم أو يبتكروا نموذجاً للتقدم، بل إن نرجسيتهم الثقافية، المبنية على اعتقادهم بأن كتابهم ينطوي على العلم بكل شيء ، قد جعلهم يسطون على ما أنتجته الجامعات الغربية من العلوم والمعارف والمناهج لينسبوها الى الاسلام والقرآن.
على المستوى السياسي، لا هاجس لدى الاسلاميين، بالرغم من رفعهم شعار تطبيق الشريعة، لجلب المصالح ودرء المفاسد، سوى الوصول الى السلطة والبقاء فيها أو الحفاظ عليها بأي ثمن، ولو بالتحالف مع أعدائهم، أو بانتهاك كل القوانين والشرائع وكل القيم والحرمات التي أجمع البشر على احترامها. ولذا نراهم يدعمون، عندما تقتضي المصلحة، المنظمات الجهادية الارهابية أو يسكتون عليها. ولكنهم ينبرون لنقدها عندما تحرجهم أعمالها الهمجية ، أمام الرأي العام، باتهام أصحابها بأنهم من “خوارج العصر”. هذا في حين أن الجهاديين التكفيريين الارهابيين، قد تخرجوا من مدارس الاسلاميين الشرعية، وهم ثمرة لدعوتهم وتعليمهم طوال عقود، بقدر ما هم ذراعهم الامني ومنظمتهم السرية. كذلك في ما يخص شعار تطبيق الشريعة وإقامة دولة الخلافة، الذي هو علة قيامهم ومبررّ دعوتهم. فهم عندما تطوقهم الازمات قد ينقلبون على شعارهم ليطرحوا شعارات الحداثيين، التي كانوا يرفضونها، حتى تحسبهم من صناع الحداثة أو من منظّري الحريات الديموقراطية. وهكذا ليس لدى الاسلاميين رؤية أو صيغة أو خطة. بل هم حكموا بعقلية الغنيمة لا بمنطق الخدمة. ولهذا فشلوا وأخفقوا، حيث سيطروا أو حكموا، محولين الصحوة الى عتمة والشريعة الى عقوبة والخلاقة الى تخلف والنهضة إلى انهيار.صحيح أنهم حصدوا أكثرية الاصوات وقفزوا الى الواجهة، بعد انفجار الثورات العربية. ولكن ماذا كانت النتيجة بعد عقد من السيطرة؟ لقد أعطي الاسلاميون الفرصة أو أحسنوا اقتناصها لتسلم السلطة والانقضاض على الدولة.
وكان من الطبيعي أن يفشلوا وأن يستجمعوا مساوئ من سبقهم. من هنا قولي: عندما سيطر رجال الدين ازداد الفساد والخراب في العالم. هذا ما أسفرت عنه سنوات عشر من سيطرة حزب النهضة على تونس: تراجع الاقتصاد وتدهور الاحوال المعيشية، تحول تونس الى مسرح للفوضى والاضطراب، إدارة المصالح العمومية بعقلية السمسرة والفساد، العجز الفاضح عن إدارة الشأن الصحي لمواجهة جائحة كورونا. هنا تفرض المقارنة نفسها مع لبنان، الذي قال رئيسه ذات مرة نحن سائرون الى جهنم. هذا ما حدث ويحدث بعد عشرين عاماً من المقاومة والتحرير: وقوع لبنان في منطقة النفوذ الايراني، وانهياره على كل المستويات، تماماً كما هي حال تونس بعد تسلط حزب النهضة الذي جرّها الى مصيرها البائس. بذلك تنكشف أكذوبة الاستثناء الاسلامي التي خدع بها الكثيرون. لأن الاستثناء قد ولدّ الكارثة ولم يصنع المعجزة. ولا عجب. فمن يفكر بعقلية الماضين ولغتهم ومفاهيمهم وأدواتهم، ليس أمامه سوى تدمير الحاضر وتلغيم المستقبل. هل تركيا تشذ عن القاعدة؟ تركيا نجحت لأن أردوغان أدار شؤونها بعقل اقتصادي، ليبرالي، تنموي، كما كتبتُ منذ سنوات.
وهو سيفشل إذا عاد الى أوراقه الاصولية الاخوانية. أما طالبان، التي هي مصدر الجرثومة الاصولية، فإنها لو وصلت الى السلطة، وهذا محل شك، (إلا إذا كان الأميركيون يريدون ذلك)، فلكي تفشل في إدارة أفغانستان وتحيل حياة أهلها الى جحيم.*لنحسن قراءة التطورات.
إن شعار: الاسلام هو الحل قد آل الى نهايته الكارثية على يد حركة “الاخوان المسلمين”: دول فاشلة، مجتمعات تمزقها الحروب الاهلية، تشويه سمعة العرب والمسلمين، ولا أقول الاسلام، لأن الاسلام كغيبيات وأساطير ومنظومات عقائدية تكفيرية ومذاهب فقهية ذكورية ، لا يُطبّق الا على نحو ما آل اليه في مصر والسودان أو في الجزائر وليبيا والصومال والساحل الافريقي. ما يبقى منه سلمّ القيم المتعلقة بالصدق والامانة والوفاء والعدل والتقى والرحمة، وهذا ما لا يفكر فيه الاسلاميون. بل هم يتفننون في نسفه وانتهاكه. مرة أخرى: يا لها من آخرة. وما جرى في تونس يؤكد القاعدة. إنه ليس مجرد إزاحة لحزب اسمه حزب النهضة. وإنما هو ينقلنا إلى مرحلة جديدة، إذ يفتح الإمكان لتحرر تونس من كابوس الأسلمة وبراثن الإسلاميين. لأن حزب النهضة ليس مجرد حزب سياسي يتعاطى السياسة بعقل ديمقراطي مدني، وإنما هو تنظيم أصولي متطرف سعى ويسعى الى أسلمة الحياة بكل وجوهها، من فرض الحجاب الى منع الاختلاط بين الجنسين، ومن تصدير الجهاد إلى جز الرقاب وحرق الأجساد أمام الملأ، ومن غزو الجامعات لمنع الانشطة الفنية الى غزوة قرية بن قردان لإقامة إمارة تونسية جهادية على حدود ليبيا. من هنا، فإن ما جرى في تونس، من فك قبضة الحزب وانفضاحه أمام الرأي العام، إنما هو بمثابة إعلان لفشل أو سقوط شعار الأسلمة ومشروع الإسلام هو الحل. والأجدى أن نسمي الأشياء بأسمائها. من غير ذلك نرجئ المشكلة لتفاجئنا على نحوٍ أكثر تعقيداً وخطورةً ومن حيث لا نحتسب.
والدرس المستخلص أن الشعارات الإسلامية، التي أنتجت كل هذه الكوارث والحروب، ما عادت تصلح كعناوين لنهوض المجتمعات العربية وتقدمها.*هل سيتنازل حزب النهضة في مواجهة قرارات الرئيس قيس سعيد، الذي حسم أمره واتخذ قرارات عاصفة زعزعت أركان المنظومة المتسلطة، لتغير قواعد اللعبة وتخلق وقائع جديدة، ينفتح معها الامكان لإعادة بناء تونس؟ لا يجدر الانخداع بما يعلن. فالإسلاميون، الذين يتقنون فنون التحايل والتلاعب والتلفيق، خاصة في تونس، إنما يدعون الآن الى الحوار الديموقراطي. غير أنهم ما كانوا يوماً مؤمنين بالحوار والمداولة. فالذي يخطط لاغتيال قادة المعارضة هو عدو للديموقراطية. هم يدعون الى الحوار عند الحشرة، لكي يعيدوا تنظيم قواهم، وينقضوا على السلطة من جديد. وها هو زعيم حزب النهضة يهدد الأوروبيين قائلاً لهم: اذا تغير الوضع القائم في تونس سينفجر العنف ويتدفق المهاجرون الى بلدانكم.لو كان اسلاميو النهضة مع الديموقراطية، لتركوا رئاسة البرلمان وكل المناصب، لكي يعتذروا من أهل تونس وينصرفوا إلى تقييم تجربتهم الفاشلة والمدمرة، لأن الديموقراطية ليست مجرد تجميع أصوات في صندوق الاقتراع، للتربع على كرسي الرئاسة.
هذه ديموقراطية بدائية لا يعتدّ بها. إن الديموقراطية الحية والفعالة هي تداول السلطة بين موالاة ومعارضة، لا اجتماع الاضداد بدعوى الشراكة والوحدة الوطنية، الامر الذي يشل عمل الدولة ويحول الحكومة الى حلبة لصراع الاضداد، كما هي الحال في لبنان الذي أخذ الديموقراطية عن الفرنسيين، ومارسها بحسب تركيبته الطائفية والاجتماعية، مع احترام قواعد المداولة للسلطة.
ولكن لبنان تراجع مع دخوله في حقبة الحروب الاهلية وهيمنة المشاريع الأيديولوجية، حيث أصبح له ثلاثة رؤساء يديرون الشأن العام والوطني بعقلية المحاصصة والسمسرة، لكي يتصارعوا على السلطة والصلاحية، أو يقتسموا الجبنة والكعكة.لاشكّ أننا تجاوزنا اليوم الديموقراطية التمثيلية، العددية، نحو أشكال جديدة، منها الديموقراطية، التشاركية. ولكن الشراكة لا تعني هنا الغاء التداول على السلطة، أي لا تعني لبننة تونس، بحيث يكون لها ثلاثة رؤساء يختلفون على الصلاحيات الدستورية أو يتصارعون لاقتسام المناصب والمكاسب.الشراكة تعني تجاوز مفهوم المواطن، بالمعنى الكلاسيكي، الذي يتعاطى السياسة فقط يوم الاقتراع، بعد أن تحول الفرد في عصر المعلومة والشبكة والمنصة والتغريدة الى لاعب فاعل يشارك في صنع ذاته وفي صنع القرار السياسي، كما في أعمال البناء والانماء. بهذا المعنى فالشراكة هي اتساع امكانات الرقابة والمحاسبة والتدخل، عبر المداولات والمناقشات العامة، التي تجري في الفضاء العمومي أو في كل حقل وقطاع.*أيا يكن إن تونس تدخل في مرحلة جديدة تفتح الامكان لإعادة ترتيب أوضاعها السياسية بتكوين سلطة جديدة أو نظام سياسي مختلف.
وما دام الرئيس التونسي قيس سعيد، قد كسر الحلقة المفرغة، التي كان يتخبط فيها بلده، بمبادرته التي قلبت الطاولة وغيرت قواعد اللعبة، فالامل أن لا ينفرد بإدارة تونس في هذه اللحظة الفائقة والحرجة.وما اراه كلبناني يهتم بالشأن التونسي، في ضوء الدرس المستخلص من التجربة اللبنانية، هو أن يصار الى تشكيل هيئة تأسيسية مؤقتة، تنوب مناب الحكومة، لإدارة المرحلة الانتقالية، تضم شخصيات مشهود لها بالجدارة والاستحقاق والنزاهة، من كل الحقول والقطاعات ومن كل الاحزاب والفاعليات. أما مهمة هذه الهيئة فهي إعادة صياغة الدستور على نحو يؤمن التوزان والتعاون والتكامل بين رئاسة الجمهورية من جهة وبين رئيسي الحكومة والبرلمان من جهة أخرى. أما المهمة الثانية، ما دام الظرف هو استثنائي، فهي حل البرلمان والدعوة الى انتخابات جديدة تتجدد معها السلطات الثلاث* ما من أزمة اليوم في أي بلد، الا ولها بعدها الخارجي، الاقليمي أو الدولي، بفعل تشابك المصالح والمصائر وعولمة القضايا والمشكلات.
غير أن الدول الكبرى التي تبدي حرصها على المسار الديموقراطي في تونس لا مصداقية لها. هناك عدد من الدول العربية قد مزقها الاسلاميون، جهاديين ومجاهدين، تحت نظر الولايات المتحدة ورعاية الأمم المتحدة. وليس سراً أن أمريكا تأملت خيراً من الاسلام السياسي، بعد نجاح التجربة في تركيا، مما شجعها على تأييد الاخوان المسلمين عند تسلمهم السلطة في مصر. هذا مع أن العلاقة بين الأميركان والاخوان هي علاقة قديمة، يشهد على ذلك لجوء قادة الاسلاميين المعارضين، من أتراك ومصريين، الى الولايات المتحدة. ثمة تواطؤ بين الفريقين مآله هذا الخراب الذي يحصده العرب في غير بلد. وعلة ذلك أن الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية ولا هي من دعاة الديموقراطية في علاقتها بسواها من الدول، كما تشهد التجارب. فهي تتصرف بعقل استراتيجي، قوامه أن تبقى الدول العربية في منطقة الهيمنة والنفوذ، أو أقله أن تبقى محتاجة اليها تستجدي منها المساعدات أو تستنجد بها لوقف حروبها الاهلية ولضمان أمنها واستقرارها. إنه عقل جهنمي يخلق المشاكل ثم يتدخل ليساعدك على حلها. فإذا بها تزداد تعقيداً واستعصاء.
هذه المقالة تعبر عن رأي صاحبها