aren

أربعون ربيعاً من التجديد والمعاصرة \\ بقلم : الشيخ نعيم قاسم
الخميس - 21 - يوليو - 2022

[1/3]

إنَّ محورَ خيار أيّ إنسان على وجه الأرض، وعبر التاريخ، هو البحثُ عن المنهج العادل في حياته، يسترشدُ بقواعده، ويحتكمُ إلى ضوابطه. وقد اهتدتْ مجموعةٌ من اللبنانيين إلى تأسيس حزب الله على أساس المنهج الإسلامي الذي يُحقِّقُ العدالة، فهو من عند الله الخالق الواحد الأحد، المُحيطِ بشؤون البشر، فهو العالمُ بسرِّهم وعلانيّتهم، وما يُصلحهم وما يُسعدهم, وهو الذي قرَّر أن يُرشدَهم إلى كمالهم في هذه الحياة الدنيا، فأرسل الأنبياء والرُّسل، وختمهم بمحمد (ص) ومعه رسالة الإسلام مُبيَّنةً في القرآن الكريم، ومُطبَّقةً بقيادته وسلوكه، وموضّحةً من خلال الأئمة الأطهار (عم)، قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

الذين أسَّسوا حزب الله عام 1982، كانوا ينتمون إلى مجموعات متديِّنة مختلفة، تعلَّمت وتربَّت واسترشدت بتوجيهات العلماء الأفاضل وأبرزهم ثلاثة: الإمام موسى الصدر (أعاده الله سالماً)، والعلَّامة السيد محمد حسين فضل الله (رض)، والعلَّامة الشيخ محمد مهدي شمس الدِّين (رض). أدرك المؤمنون في هذه المجموعات الثلاث أهميةَ أن يكونوا معاً موَحَّدين بقيادة القائد المُلهم الإمام الخميني (قده)، الذي قاد ثورةً إسلاميةً أسقطت الشاه العميل لأميركا، وأقام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، على نهج الإسلام ديناً ودولةً ودستوراً وحياة.

الالتزام الديني بالإسلام يتطلَّبُ اتّباع تعاليم الدين في العبادات والمعاملات، وكلُّ ملتزمٍ يعود إلى مرجعٍ دينيّ له «رسالة عملية» توضِّحُ كيفية أداء العبادات الصحيحة وشروطها ومقبوليتها كالصلاة والصوم والحج والزكاة… وكيفية أداء المعاملات بطريقةٍ شرعية بعيداً عن الحرام بتبيان الحدود الشرعية في عقود الزواج والبيع والشراء والإيجار والتجارة والمزارعة…

هذا الالتزام الدِّيني بالعبادات والمعاملات يُحقِّقُ الإيمان الفردي والأُسري، لكنَّه لا يُحقِّقُ حضورَ الإسلام في الحياة العامة للناس وفي الدولة. ومن أجل تحقيق الإيمان بالمنهج العادل في حياة الناس عموماً، يجبُ تنظيمُ علاقة المؤمنين تحت سقف قيادةٍ تُحقِّقُ المشروع العام، وهذا ما يتطلَّبُ تنظيماً وعملاً سياسيّاً وجهاديّاً، وإدارةً تنقلُ الفردَ المؤمن من الالتزام الفرديّ إلى الالتزام بالجماعة ومع الجماعة. قال تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (المائدة 55-56).

ومَنْ أولَى من الإمام الخميني (قده) المُتصدِّي، وهو القائل: «الهدفان الأساسيان للأنبياء هما: التربية الروحية لتزكية النفس لتتحرَّر من أسْرِ الشيطان، قال تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا”، وإنقاذ الناس من سلطة الظالمين، ما يتطلب عنايةً بالعبادات والأحكام الفردية، وكذلك بالشؤون العامة المرتبطة بإدارة المجتمع والدولة. لقد عمل الأنبياء لتحقيق هذين الهدفين، فوجَّهوا الناس نحو بناء النفس لامتلاكها وتوجيهها، فعن أمير المؤمنين علي (ع): “أملكوا أنفسكم بدوام جهادها”، وقادوهم لإقامة العدل وإسقاط الظالمين».

هل يمكن العمل في السَّاحة من دون حزبٍ سياسيّ، ورؤيةٍ سياسيَّة، ومواقف سياسيَّة؟

بناءً على هذه الرؤية الإسلامية، كانت الخطوة الأولى في تأسيس حزب الله، هي إنشاءُ حزبٍ دينيّ مُقاومٍ وسياسي.

اجتمعت المجموعات المتديِّنة التي كانت تنتمي إلى أُطرٍ مختلفة، وكتبت وثيقةً تُبيِّن فيها رؤيتها ومشروعها في لبنان، وانتدبت تسعة من أعضائها يمثلونها، ثلاثة من كلِّ مجموعة، ذهبوا إلى الجمهوريَّة الإسلامية الإيرانية، في النصف الثاني من عام 1982، وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، حاملين معهم هذه الوثيقة لتقديمها إلى الإمام الخميني (قده)، وطلبِ الموافقة منه على مبايعته كقائد لهم، مبيِّنين تطلّعاتهم، ومستعدِّين للسَّير على هديها بقيادته كوليِّ أمرٍ للمسلمين، وكذلك بإجراء أيّ تعديلات عليها بناءً على قراره.

نذكُرُ بعض ما ورَد في الوثيقة التي حملها أعضاء «لجنة التسعة» لتبيان الرؤية:

« حركة إسلامية تعمل مع جماهير الشعب، وقيادتها الطليعة المؤمنة.

● تطرح الإسلام كبرنامج متكامل فكريّاً وعمليّاً.

● الالتزام بولاية الفقيه، نظريّاً وعمليّاً، المتمثِّلة الآن بالإمام الخميني (دام ظله).

● إنَّ تحرير القدس وإزالة “إسرائيل” من الوجود هما القضيَّة المركزية، ولهما الأولوية في تحركنا العام.

● يُراعى في التَّنظيم الطابع الجماهيري».

وبمراجعة تفاصيل بنود الوثيقة، يتبيَّن أنَّ ركائزها أربع: التزامُ الإسلام كمنهج حياة، والقيادةُ للوليّ الفقيه، والمقاومةُ أولويَّة وطابعُ التَّحرُّك جماهيري.

أوّل خطوة نوعيَّة هي تأسيسُ حزب الله الذي يحملُ رؤية إسلامية للحياة، وليس من خلفيَّة طائفيَّة أو مذهبيَّة، بل من منطلق مبدئي عقائدي.

من الطبيعي أن يكون المنضوون في المرحلة التأسيسيَّة من المسلمين الشيعة، لأنَّ منهج الحزب هو منهج إسلامي على خط النبي (ص) وأهل البيت (عم)، ويؤمن بولاية الفقيه، والشِّيعة أقرب إلى هذه القناعة. وقد التحق في ما بعد من الآخرين من يؤمن بهذه الرؤية، وعَمِلَ الحزب من خلال هيئاتٍ وتجمعات حول حزب الله، ومع الأنصار والسَّرايا الذين لا تُشترط في تشكيلاتهم والعلاقة معهم خصوصية الالتزام الدِّيني وما ينتج منه، لكنَّهم مقتنعون بجهاد الحزب وسياساته. كما أنَّ انتساب النَّاس إلى الطائفة الشيعية لا يعني حُكماً أنَّهم منضوون حزبيّاً إلى حزب الله، وإن كانت الأغلبية السَّاحقة هم من المؤيِّدين لمشروع المقاومة.

ثاني خطوة نوعية هي الالتزام بولاية الفقيه، التي تمثَّلت عند التأسيس بالإمام الخميني (قده) ومن بعده بالإمام الخامنئي (دام ظله)، هذا الالتزام هو رؤية تجديدية غير تقليدية، وهو مصدر قوَّة وثبات لخطِّ حزب الله.

حزبُ الله حزبٌ إسلاميٌّ عقائدي، يلتزم بتوجيهات وتصويبات الوليّ الفقيه، الذي يرسم السياسات العامة في العالم بحكم موقعه، فيُحدِّد الأعداء والمخاطر، ويُصوِّبُ الاتِّجاهات الصحيحة للناس في حياتهم، ويدعم الشعوب لمصلحة تحقيق العدالة في العالم وخاصة المستضعفين منهم، ولكنَّ المسؤولية الأساس في الإدارة والمواجهة وتحقيق الأهداف هي على عاتق الجهة التي تتصدَّى، وهنا على عاتق قيادة حزب الله الذي حدَّد أهدافه وخياراته.

ثالث خطوة نوعية هي أولوية المقاومة.

ستكون لهذه الأولوية للمقاومة تأثيراتٌ عظيمة، وهي من بركات توجيهات الوليّ الفقيه. لا شكَّ بأنَّ المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين أصل، والمقاومة اللبنانية حدَّدت بوصلتها كمقاومة مساندة وعاملة للتحرير.

ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6 حزيران 1982، ليوجِّه ضربةً قاسية لمشروع المقاومة من خلال إخراج الفلسطينيين المقاتلين إلى تونس، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وضرب الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، فضلاً عن العدوان اليومي على الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين.

الأولوية للمقاومة، وهي في خدمة السياسة، فعندما تُحرِّر الأرض وتنتصر على العدو، تُضعِف تأثير الأجنبي، وتعمل مع القوى السياسية والنَّاس لمصالح البلد الداخلية في الإدارة والاقتصاد، ومعالجة مشاكل النَّاس الاجتماعية، وما تحتاج إليه حياة النَّاس التَّربوية والصحيَّة وغيرهما… أمَّا إذا كان البلد محتلّاً، أو كان جزءٌ منه محتلّاً، فسيكونُ مربكاً، ويُعاني من وجود العدو واعتداءاته وتدخلاته في الحياة السياسية.

الإمكاناتُ قليلة، والعددُ محدود، لكنَّ الإرادة والقرار والالتزام بالمقاومة أصبحت أولويَّة الأولويات عند حزب الله، والبوصلة باتِّجاه تحرير فلسطين والقدس كفعل إيمان والتزام. قال سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله (حفظه المولى) في يوم القدس 2022: «مسألة فلسطين والقدس هي جزءٌ من ديننا، هي جزءٌ من عقيدتنا، هي جزءٌ من إيماننا، هي جزءٌ من كرامتنا، هي جزءٌ من عرضنا، ونحن أمة لا يمكن أن تتخلى لا عن دينها ولا عن عقيدتها ولا عن كرامتها ولا عن عرضها».

لذا أدخَلَ الحزب في برنامجه الاستقطابي إلى تشكيلاته، لقبول انتساب الفرد إلى حزب الله، وجوب الدَّورة العسكرية برتبة مقاتل كحدٍّ أدنى، وفي صميمها التثقيفُ الإسلامي والتَّوجيهُ السياسي. وساعدنا على ذلك مجيء حرس الثورة الإسلامية الإيرانية الذي درَّبَ القيادات والمجموعات الأولى التي انتسبت إلى حزب الله، وأمدَّتنا إيران بالسِّلاح والذَّخيرة والمال والتَّدريب لمستوياتٍ متقدِّمة لتخريج قيادات جهاديَّة عسكرية للمقاومة.

كان لبنان خلال الاجتياح الإسرائيلي وبعده في حالة فوضى سياسية، وانقسام بين المنطقة الشرقية المسيحية وبين المنطقة الغربية المسلمة، انقساماً لم يقتصر على النَّظرة إلى تأييد المقاومة الفلسطينية أو رفضها، بل هي أبعد من ذلك بكثير، فقد وصلت إلى نقاش وحدة الوطن أو تقسيمه، وإلى دور الأجنبي في إدارته وتغليب فريقٍ على آخر… في ظلِّ هذه الظروف، لم يكن حزب الله جزءاً من هذا الانقسام الداخلي سياسيّاً وعمليّاً، فحزبُ الله حديثُ النشأة، وقد صبَّ اهتمامه على المقاومة جهاداً وتربيةً ومساراً. ولأنَّ المقاومة هي الأولويَّة، سخَّر الحزب كلَّ ما توفَّر لديه من إمكانات لمصلحة المقاومة، فقويت بنية الحزب التَّنظيمية الجهادية، وتوسَّعتْ تشكيلاته، وازدادتْ عملياتُ المقاومة.

لا شك أن بيئة أهلنا العامة كانت لا تتقبل في البداية العمل المقاوم، بسبب الإشكالات التي حصلت في الجنوب مع بعض جهات المقاومة الفلسطينية، واعتقادهم أنَّه تأييد لهم لا للقضية الفلسطينية. وكذلك كثير من القوى والشخصيات في لبنان وجَّهوا نقداً لاذعاً لاستمرارية مقاومة الاحتلال، باعتبارها «عملاً غوغائيّاً»، و«العين لا تواجه المخرز»، و«ارحموا حياة الشباب»، و«المقاومة العبثية»… لكنَّ تصميمَ الحزب المبدئي، وقناعته بسلامة الخط، مع التَّضحيات والصَّبر، وتربية شباب الحزب على هذه المعاني الإسلامية، أدَّى إلى استمرار المقاومة في خطٍّ تصاعُدي، مع مزيد من التأييد الشعبي والالتفاف حولها، وزيادة الملتحقين من الشباب بالمقاومة.

واجهت مقاومة حزب الله عدواناً إسرائيلياً في تموز 1993 لسبعة أيام، انتهى بتفاهم تموز الشفوي، ووقف العدوان الإسرائيلي في مقابل وقف إطلاق المقاومة لصواريخ الكاتيوشا. وواجهت المقاومة عدوان نيسان 1996 الذي استمر ستة عشر يوماً، فكانت المقاومة أصلب عوداً وأشدُّ بأساً وأوقعت الخسائر في صفوف العدوّ، ما اضطرّه إلى عقد تفاهم نيسان الخطي، الذي أعطى مشروعية للمقاومة بإقرار العدوّ في حق الدفاع عن النَّفس، وتحييد المدنيين، وعدم قصف إسرائيل للمدنيين والمنشآت المدنية في لبنان مقابل عدم إطلاق حزب الله صواريخ الكاتيوشا واستهداف المدنيين في المستعمرات الشمالية.

تكثَّفت ضربات المقاومة وعملياتها النَّوعيَّة ضدَّ إسرائيل وعملائها في المنطقة المحتلَّة من لبنان، ولم تعد إسرائيل قادرة على استمرار احتلالها الذي تتحمل بسببه خسائر يوميَّة وكبيرة، فاضطرت إلى الانسحاب الذليل في 24 أيار 2000 من دون قيد أو شرط، ومن دون أي اتفاق مع لبنان ومقاومته، فكان التَّحرير بشكله ومضمونه وتفاصيله أشبه بالمعجزة، وهو أول انسحاب للاحتلال من نوعه في المنطقة من دون اتفاق، وبسبب المقاومة في مواجهة الكيان الغاصب المدعوم دوليّاً والذي فاخر طويلاً بجيشه الذي لا يُقهر!

أما النَّصر التاريخي الكبير في الحرب الاستثنائية، فهو الفوز في مواجهة العدوان الإسرائيلي لثلاثة وثلاثين يوماً، والذي أراد العدو من خلاله إنهاء و«سحق» حزب الله. فوجئ العدو والعالم بحجم استعداد الحزب، ومستوى أدائه القتالي، والخطط الميدانية المُحكمة، وصمود المجاهدين الأسطوري في مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب وغيرها من قرى الجنوب ومواقع الجهاد المختلفة في ضاحية بيروت والبقاع. وفوجئ بضرب الباخرة الإسرائيلية في عرض البحر وتعطيلها، واستخدام صواريخ الكورنيت الحديثة والمتطوِّرة التي أوقعت مجزرة دبابات الميركافا في وادي الحجير. كما فوجئ العدو بهذه القيادة الواثقة والشجاعة والحكيمة والمضحِّية لسماحة الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله (حفظه المولى)، الذي كانت خُطبه وكلماته ومواقفه تشحذُ الهمم وتُطمئن النَّاس وتُرعب العدو، وهو الذي أدار الحرب وقاد المقاومة مباشرة في قلب المعركة، وخاصة مع قائد الانتصارَين الشهيد الحاج عماد مغنية (رض) الذي كانت بصماته واضحة في التهيئة للنَّصر، ولا ننسى الدور المركزي والمباشر لقائد محور المقاومة الحاج الشهيد قاسم سليماني (رض)، الذي واكب الإدارة والمَدَد والتَّوجيه. إنَّ حزباً لديه مثل هؤلاء القادة منصورٌ دائماً، وبإمكانه أن يُحقِّق أهدافه التي رسمها.

يتكامل عمل المقاومة مع الاهتمام بالجوانب الأخرى التي تُحيط بالمقاومين ومجتمعهم، ولذا أنشأ الحزب في هيكليته الوحدات الثقافية والسياسية والاجتماعية والنسائيَّة والشبابيَّة والتربويَّة والكشفية والصحيَّة والخدماتية… التي تُشكِّل تنظيماً متكاملاً يعمل بأولوية المقاومة، ويستفيد من كلِّ الطَّاقات التي تُعطي في المجالات المختلفة، والتي تحتاج إليها بنية الحزب، ليكون حالةً جهاديةً شعبيَّة، لا حالةً حزبيَّة منغلقةً على نفسها، أو تقتصر على الأعضاء المنتسبين.

[2/3]

ثقافةُ الشَّهادة ميزةٌ طبعتْ جهادَ المقاومة الإسلامية في لبنان، ومن الطبيعي أن تتحمَّل أيّ مقاومة تبعات مواجهة العدو، وتتحمَّل التَّضحيات، لكنْ أنْ تُصبحَ الشهادةُ ثقافةً وإيماناً متجذِّرين، بحيث يُقبِلُ المجاهدون على المقاومة، راغبين بالحصول على الشَّهادة، فهذا نمطٌ استثنائي، أعطى قوَّةً ودفعاً لمسيرة المقاومة، وأبطلَ تخويف العدو لمن يقابله بالقتل والموت، ما أضعفَ قدرة العدو على تحقيق أيّ إنجاز بالتَّهويل والتَّهديد.

الشهادةُ سلاحُ الرُّعب للعدو، وقدرةٌ لا يُمكن إبطالُها ولا تعطيلُها، وعندما يكون الوطن بين خيار الحياة مع الاحتلال، وهو موتُ الكرامة والعزَّة والحريَّة… أي موتُ شعور الإنسان بإنسانيته وحياته، وبين خيار الشهادة لطرد الاحتلال، وهي حياةٌ معنويَّة مستمرة كتاريخ مُشرِّف، وحياةٌ للناس في بلدهم ينعمون بالاستقلال والتَّحرير والسِّيادة.

وحدها المقاومة، وثقافة الشهادة، ألزمتا إسرائيل بالانسحاب في المرحلة الأولى عام 1985، وبالتحرير الكامل عام 2000، باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر، وذلك من خلال عمليات المقاومة والتفاف شعبنا حولها، وصمود جيشنا اللبناني الوطني في المحطات العدوانية المختلفة. لم تهدأ المقاومة وعملياتها النَّوعية والاستشهادية، ومطاردة العدو في كل مكان في جنوب لبنان والبقاع الغربي، فارتقى شهداء أعزَّة أطهار، أناروا طريق النَّصر، فتحقَّق التحرير الاستثنائي بالمقاومة وثقافة الشهادة.

حزب الله مدينٌ لشهدائه الأبرار بتضحياتهم التي عبَّدت الطريق للنصر، مدينٌ للقادة الشهداء، للسيد عباس الموسوي (قده) بجهاده الذي كان مُميَّزاً في حضوره بين المجاهدين وشهادة زوجته أم ياسر وطفلهما حسين معه. والشيخ راغب حرب (قده) الذي رفض مصافحة العدو وتحدَّاه وثبَّت النَّاس في ساحة المواجهة. والحاج عماد مغنية (رض) قائد الانتصارين. والحاج مصطفى بدر الدين (رض) قائد مواجهات التكفيريين. ولكل الشهداء الأبرار في ساحات المقاومة المتعدِّدة.

مدينٌ لقائد محور المقاومة الفريق قاسم سليماني (رض) الذي قدَّم الكثير الكثير وكان الحاضر الدائم في الميدان المباشر. مدينٌ للجرحى والأسرى الذين صبروا صبراً عظيماً لتجتاز مسيرة حزب الله كلَّ الصعوبات. مدينٌ للعوائل وخاصة الأمهات والزوجات والأخوات والبنات اللواتي شكّلن دعماً مُميَّزاً وحضناً دافئاً لمقاومةٍ متألِّقة. الجميع في الميدان القادة وعوائلهم وعلى رأسهم الأمين العام السيد حسن نصرالله الذي قدَّم ولده شهيداً، المنتمون إلى الحزب والمؤدلجون مع عوائلهم، البيئة الحاضنة من الشعب وتعبئته رجالاً ونساءً وأطفالاً، وسرايا المقاومة، ما شكَّل قوَّة مرصوصة واجهت التَّحديات، وهي تزداد قوَّة وعدداً وتصميماً وجهاداً، فالمستقبلُ لها.

حزب الله مدينٌ لشعبه اللبناني الذي يمثل أشرف الناس وأشرف المضحِّين في أصعب زمن وفي أصعب تعقيدات. مدينٌ لدعم الجمهورية الإسلامية في إيران وحرس الثورة الإسلامية وفيلق القدس فيها، وقيادة الولي الفقيه الإمام الخامنئي (دام ظله) على نهج الإمام الخميني(قده). مدينٌ لدعم سوريا في أصعب الظروف. حُلفاء الحزب باحترام وثقة وتشاور وثبات.

وضع حزب الله هدفاً مركزيّاً هو عدم الانجرار إلى الفتن الداخلية، أكانت داخل البيئة الواحدة، أو كانت مذهبية، أو طائفية، أو أيّ شكل من أشكال الفتن والتلهي بصراعات داخليَّة عن مواجهة إسرائيل كأولويَّة.

ابتُلي حزب الله بفتنة الاقتتال مع الإخوة في حركة أمل، ولن نُبرِّر الأسباب في هذه المقالة، وعلى الرَّغم من محاولة الهرب منها عندما اندلعت في الجنوب، فلم يقاتل الحزب بل سلَّم سلاحه، ولكن لم يجد مناصاً من القتال في الضاحية الجنوبية دفاعاً وجوديّاً، وهو يسعى جاهداً للحل. وعلى الرَّغم من الشهداء والخسائر عند الطرفين، لكنَّ توفر إرادة وقف الاقتتال ووأد الفتنة عند حزب الله وحركة أمل، وتدخُّل كل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية العربية السورية، كلّ ذلك ساعدَ في طيِّ هذه الصفحة الأليمة عام 1990، ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن، بنى الحزب والحركة تحالفاً قويّاً ومتيناً حول المقاومة واستقلال لبنان، ووأدا الفتنة بينهما إلى غير رجعة. بل أصبح التحالف الوثيق بين الحزب والحركة محلَّ تندُّر ومحلَّ حسدٍ من بعض الجهات. والنتيجة المضيئة هي أنَّنا لم نغرق في الفتنة، ونجحنا في القضاء عليها، لمصلحة أولويَّة المقاومة.

كما واجه حزب الله كل محاولات الفتنة المذهبية السنيَّة الشيعية، ومن يُشكل على الحزب أحداث السابع من أيار 2008، يحاول إثارة النقاط ضد الحزب فقط. وإلَّا فإنَّ تعطيل القرار الخطير لحكومة السنيورة في 5 أيار 2008، والذي استهدف ضرب شبكة اتصالات حزب الله، والتي تُعتبر من دعائم المقاومة وقوَّتها ضدَّ إسرائيل، وانهاء الاقتتال في يوم واحد في السابع من أيار، والإسراع في دعوة الجيش اللبناني ليتسلّم الأمن في المنطقة الغربية من بيروت، دليلٌ على نجاح حزب الله في وأد الفتنة.

عمل حزب الله على أحسن علاقة وتنسيق مع الجيش اللبناني الذي رفض الانجرار إلى الفتنة الداخلية، فتلاقت أهداف الحزب مع الجيش في منع التقاتل، ومعالجة كل الأمور بالتواصل والحوار والتنسيق. والحمد لله لم تتهيأ ظروف الفتنة الطائفية الإسلامية المسيحيَّة بعد انتهاء الحرب اللبنانية وعقد اتفاق الطائف.

خلال العقد الأول من تأسيس حزب الله 1982 – 1992، كان اهتمامه الأول والأساس هو: المقاومة، فكلُّ شيء في خدمة المقاومة. الثقافة والتعبئة والإمكانات والخطط والنشاط الاجتماعي… وعلى الرغم من إعلان الرسالة المفتوحة عام 1985 والتي تطرح الرؤية السِّياسية لحزب الله، لكن كان اهتمامنا السِّياسي والإعلامي في خدمة المقاومة. ساعَدَ على مركزة عمل حزب الله حول المقاومة الأولويَّة التي رسمها في تحرير الأرض، وإيمانه العقائدي الذي تمركز في إيجاد البيئة المؤمنة وحماية خيارها، وكذلك ظروف البلد السِّياسية حيث كان لبنان منقسماً إلى منطقتين متنازعتين شرقيَّة وغربيَّة، واقتتال يومي بينهما، وفيهما حكومتان، ولا يوجد حراك سياسي بالمعنى الوطني العام، فالبلد في حالة غير مستقرّة. ولكن بعد اتفاق الطائف أصبح الحزب أمام استحقاقات سياسيَّة داهمة.

لبنان يتَّجه إلى الاستقرار السِّياسي، وستجري أول انتخابات نيابيّة فيه في تشرين الأول 1992، بعد عشرين عاماً من آخر انتخابات نيابيَّة عام 1972. هل يُشارك الحزب في الانتخابات النيابيَّة؟ وهل يُشارك في تشكيل الحكومة؟ وهل ستكون له تحالفات سياسية مع أحزاب في الدَّاخل؟ وما هو موقفه من إدارة البلد؟ وغيرها من الأسئلة التي تتمحور حول العمل السياسي على السَّاحة اللبنانيَّة والمشاركة السياسيَّة في النظام اللبناني، وهي أسئلة لم يكن الحزب قد حسم الإجابات عنها سابقاً، ولم تكن من أولوياته.

هي قفزةٌ نوعية، أن ينتقل الحزبُ العقائدي من دائرة التَّبليغ ونشر الإيمان بين النَّاس، إلى المشاركة في العمل السياسي من ضمن تركيبة النظام اللبناني في مرحلته الجديدة بعد اتفاق الطائف. حصلَ نقاشٌ مستفيض حول كيفية عمل الحزب على السَّاحة بعد عقدٍ من إنشائه. هل يستمر الحزب على الوتيرة نفسها، فيعمل ضمن أولويته ولا يهتم بالأمور الأخرى داخل البلد؟ أم يُجري تعديلاً في مساره ليعمل من ضمن تركيبة الدَّولة والنِّظام في لبنان؟

لم تكن الإجابة جاهزة، بل كان الانطباع الأوَّلي أنَّ الاستمرارية على ما كان عليه الحزب أبرأ للذِّمة في ميزان الحلال والحرام. لكنَّ مشكلة هذا الاتجاه أنَّه يجعل الحزب منغلقاً على ذاته، ومعزولاً عن السَّاحة السياسية العامة، وليس معلوماً كيف سيستمر ويحمي مسيرته في الجوانب المختلفة، وهل يمكن أن تقوى المقاومة من دون عمل سياسيّ مع قوى سياسية مؤمنة بها، وفي بلدٍ فيه تحديات داخلية كثيرة تتطلب تعاوناً لتشكيل الرصيد الكافي لتتكامل المقاومة مع الواقع الداخلي؟

رجحتْ كفَّةُ العمل السياسي والمشاركة في الدولة في النقاشات، على أن تكون البداية الواضحة هي المشاركة في الانتخابات النيابية إذا كانت حقيقية وحرَّة، وذلك بعد استفتاء الوليّ الفقيه الإمام الخامنئي (دام ظله) الذي أجاز المشاركة، لأن مسألة المشاركة في النظام من عدمها تحتاج إلى إجازة شرعية بحسب إيمان الحزب والتزامه الدِّيني.

تطلَّبَ قرارُ المشاركة في الانتخابات، تعديلات في هيكلية الحزب، فبينما كان الأساس في اختيار مسؤولي القطاعات في كلِّ منطقة من المناطق اللبنانيَّة الخمسة – بحسب تقسيمات الحزب التَّنظيميَّة- واختيار مسؤولي الشُّعب في القرى والأحياء في كلِّ قطاع، أن يكونوا مسؤولين عسكريين يعملون مع الجسم الداخلي للحزب، بالتعبئة العامة للمنتسبين الجُدد، والإدارة الميدانيَّة للمُنظَّمين. أصبح الحزب بحاجة إلى مسؤولين تنظيميين يتعاطون مع البلديات والمخاتير وعموم النَّاس في قضايا ترتبط بحياتهم ومطالبهم اليومية، ويعطون الوقت الكافي لهذه المسائل، وهو ما أنجزه الحزب بنجاح…

مع حسم مبدأ المشاركة في الانتخابات النيابية، حُسمت قاعدة أساسية في العمل السِّياسي، وهي أنَّ العمل السِّياسي في خدمة المقاومة، وليست المقاومة في خدمة العمل السِّياسي. أي أنَّ المقاومة ستبقى أولوية، ولن نُشارك في أي موقف سياسي أو نتخذ أي قرار سياسي يؤدي إلى إضعاف المقاومة، أو استخدامها لتحسين الشروط السياسيَّة، وبالتأكيد لن يكون أي مكسب سياسي مهما بلغ بديلاً عن المقاومة، فالمقاومة والسِّياسة متلازمتان على قاعدة الأولويَّة للمقاومة.

لم يشارك حزب الله في أي حكومة منذ عام 1992 إلى عام 2005، على اعتبار أنَّ الحكومات المتعاقبة غلبت عليها الأمور الإجرائية في البلد، ولم تكن محلَّ صناعة القرار السِّياسي أو إدارة الخطط المستقبلية للبلد، ولمَّا كان الحزب مطمئنّاً إلى حماية الموقف السِّياسي بسبب الحضور السوري وتأثيره في هذا المجال، وهو مع المقاومة بل ويعتبرها جزءاً من أسلحته في مواجهة المشروع الإسرائيلي. لم تكن لمشاركة الحزب في الحكومة فائدة عملية، وهو سيكون مضطراً للعبة المحاصصة والتسويات في الأمور الداخلية التي لها علاقة بالتعيينات والمشاريع، وهذا ما لا يُرضيه في عمله السِّياسي.

لكنْ بعد إصدار قرار مجلس الأمن 1559 في أيلول 2004، والذي يستهدف المقاومة في لبنان بنزع سلاحها، واستشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، والذي أحدث هزّة كبيرة في الواقع الداخلي اللبناني، وخروج الجيش السوري من لبنان في 30 نيسان 2005، جرت الانتخابات النيابيَّة التي سيجري بعدها تأليف الحكومة اللبنانية التي ستكون ذات صلاحيات واسعة في اتخاذ القرارات السياسية المصيرية وخاصة في ما يتعلق بالمقاومة، وستكون معبراً لأيّ قرار على مستوى دور لبنان وموقعه في الصِّراع مع إسرائيل، وتحالفاته في المنطقة، ونظرته إلى العلاقات الدَّولية والعربية، إضافة إلى دورها الدَّاخلي السِّياسي والاقتصادي والاجتماعي…

رأى حزب الله – ولأول مرَّة – أنَّ مشاركته في الحكومة ضروريَّة وأساسيَّة، ليكون شريكاً في صناعة القرار السياسي للبلد، ومؤثّراً في مسار تحالفاته وعلاقاته الإقليمية والدَّولية. ‏فإذا لم يشارك فيها، فقد يُفاجأ بقرارات تتطلّب تحركاً وجهداً كبيرين واتصالات وعلاقات… من أجل إبطالها أو تعديلها، فالأوفر جهداً والأقل كلفة والأكثر طمأنينة أن يكون داخل الحكومة، يساهم في صنع القرار من مقدّماته، مع القوى الأخرى في داخل الحكومة، ويطمئن لسياسات وقرارات لا تطعن المقاومة في ظهرها. إضافة إلى ذلك فإنَّ الحكومة ستكون معبراً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والخطط التنموية وهي حاجاتٌ يطلبها الناس، والحزب معنيٌّ بأن يُدافع عن مطالبهم، ويخدم المناطق التي يمثلها من ضمن العمل العام لخدمة الوطن.

بعدها أصبح مطلب حزب الله الدائم عند تشكيل الحكومات، أن يكون جزءاً منها، وأن تكون الحكومة حكومة وحدة وطنية، بصرف النظر عن موقع الأكثرية النيابية أكانت مع حزب الله وحلفائه، أم كانت مع الطرف الآخر. أمَّا وجود حزب الله في الحكومة فقد بيَّناه أعلاه، وأمَّا الحرص على حكومة الوحدة الوطنية، فلأنَّ بلدنا طائفي، ونظامه طائفي، ولا تصلُح فيه الأكثريَّة والأقليَّة، إذ سرعان ما تتحول الأقليَّات إلى طوائف مقهورة من الطوائف الأخرى، وتتحول الأكثرية إلى طوائف تتفرَّد بالبلد ومقدراته ومصيره. أما عندما يكون جميع أو أغلب الأطراف مُمَثلين، عندها تتوزع المسؤولية في إدارة البلد، وحتى ولو كانت الخلافات داخل مجلس الوزراء أكثر، فإنَّها تجد حلولاً بطيئة أو توافقية أو وسطية، ولكن إذا كان عددٌ وازن من القوى خارج الحكومة، فإنَّ المعارضة ستتحول إلى تعطيل من خلال القوانين والمواقف وإثارة النعرات، وسيصبحُ المشاركون في الحكومة تحت وطأة ضغوطات الآخرين، فضلاً عن التباينات بينهم داخل الحكومة.

ليست حكومة الوحدة الوطنية حلاً نموذجيّاً، لكنَّها أفضلُ الحلول المتاحة، وأما الهروب من المسؤولية، وادِّعاء المعارضة، بسبب ضعف التمثيل النيابي لبعض القوى، فقد أثبتت التجربة أنَّ حراكهم – على الأغلب – شعبوي إعلامي مُعيق، ولا يُساهم في تصويب عمل الحكومة.

 [3/3]

منذ انخرط حزب الله في العمل السِّياسي ابتداءً من عام 1991، كان مقتنعاً بأنَّ التعاون مع القوى والجهات السِّياسيَّة المختلفة ضروري

ما هي نظرة الحزب إلى الوطن؟

توجد قيمةٌ خاصَّة لرابطة العقيدة والدِّين، ولا تَحُولُ الجغرافيا والحدود دون التَّعاطف مع المؤمنين على امتداد العالم، بل لا يُمكن أنْ تمنعَ الحدودُ من الاشتراك مع شعوبٍ أخرى بمنظومةٍ واحدةٍ من القِيَم الدِّينيَّة الإسلامية، ولا تحُدُّ الجغرافيا من الارتباط المرجعي والقيادي بعلماء يُبيِّنون الأحكام الشَّرعيَّة ويقودونَ السلوكَ العام للمؤمنين بها في بُلدانهم المتعدِّدة. وبسبب هذا الارتباط والانتماء تولَّدت شبهة مصدرها بعض الحركات الإسلاميَّة التي نظَّرت برفض الملتزم دينياً لحدود بلده لمصلحة أن يكون جزءاً من الدَّولة الإسلاميَّة العالميَّة! وهذا ما لم يطرحه حزب الله منذ نشأته. كما كان مهتمّاً بالبناء العقائدي وتأصيل الجهاد ضد الصهاينة الغزاة والتَّنظير لهما، ولأنَّ فلسطين كانت حاضرة كبوصلة في اهتمامات الحزب، وكان الالتزام الدِّيني بقيادة الوليّ الفقيه الإمام الخميني (قده)، روَّج أعداؤه وأخصامه بعدم انتمائه إلى وطنه لبنان، وقناعته بأن يُلحقه بالجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة! ساعدَ على هذا الادّعاء والافتراء أنَّ الحزب لم يُعلن بوضوح عن نظرته إلى الوطن في وثائقه وخُطب قادته، إلَّا في الوثيقة السياسية لحزب الله عام 2009. والآن لم يعُد لهذا الادّعاء أيُّ محل، فقد خصَّصَ حزبُ الله في هذه الوثيقة فقرة مستقلَّة عن نظرته إلى الوطن، جاء فيها:

«أولاً: الوطن: إنَّ لبنان هو وطنُنا ووطنُ الآباء والأجداد، كما هو وطنُ الأبناء والأحفاد وكلِّ الأجيال الآتية، وهو الوطنُ الذي قدَّمنا من أجلِ سيادتِه وعزَّتِه وكرامتِه وتحريرِ أرضه أغلى التَّضحيات وأعزَّ الشهداء. هذا الوطنُ نُريده لكلِّ اللبنانيين على حدٍّ سواء، يحتضنُهم ويتَّسِعُ لهم ويشمخُ بهم وبعطاءاتهم.

ونريدُه واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفضُ أيَّ شكلٍ من أشكال التَّقسيم، أو “الفدرَلَة”، الصريحة أو المُقنَّعة. ونريدهُ سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسيّاً في صنع الحاضر والمستقبل، كما كان حاضراً دائماً في صُنع التاريخ».

حزب الله يؤمن بأنَّه لا يوجد أيّ تعارضٍ بين الانتماء الدِّيني وبين الانتماء إلى الوطن، بل يجبُ المحافظة على الوطن والدِّفاع عنه، وهذا ما أثبتته المقاومة بعطاءات الدَّم والتضحيات. فعن رسول الله (ص): «إنَّ الله عزَّ وجل يُبغض رجلاً يُدْخل عليه في بيته ولا يُقاتل». وقال الإمام علي(ع): «عَمُرَتِ البُلدان بحُبِّ الأوطان»”.

أمَّا شكلُ النِّظام فموقف الحزب هو ما ورَدَ في «الرسالة المفتوحة» عام 1985: «الحدّ الأدنى لطموحنا في لبنان: إنقاذ لبنان من التبعية للغرب أو للشرق وطرد الاحتلال الصهيوني من أراضيه نهائياً واعتماد نظام يقرره الشعب، بمحض اختياره وحريته».

لماذا بنى الحزب تحالفاته وخاصة مع التيار الوطني الحر؟

منذ انخرط حزب الله في العمل السِّياسي ابتداءً من عام 1991، كان مقتنعاً بأنَّ التعاون مع القوى والجهات السِّياسيَّة المختلفة ضروري لمقاومة العدو الإسرائيلي وبناء الدَّولة، لذا كان حريصاً على بناء تحالفات مع قوى تتقاطع معه في قناعاته وخاصةً مع أولوية المقاومة. لذا أحيا حزب الله لقاء الأحزاب الوطنيَّة عام 1997 تحت عنوان واحد: الالتفاف حول المقاومة، ولم يطرح برامج سياسيَّة مُطوَّلة، فالشيطان يدخل في التفاصيل، ويكفي الالتزام بما يرتبط بهذا الالتفاف من دعم الجيش اللبناني، والعلاقة مع سوريا، والتأكيد على الوحدة الدَّاخلية، والاحتكام إلى الدستور والقوانين.

لكنَّ الإنجاز الاستثنائي هو ما أنتجه الحوار بين حزب الله وبين التيار الوطني الحر، من توقيع تفاهم خطِّي في 6 شباط من عام 2006، وقَّعه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون، وفي مضمونه: «إن الحوار الوطني هو السبيل الوحيد لإيجاد الحلول للأزمات.

● اعتماد الديموقراطية التوافقية.

● بناء الدَّولة (لها حيِّز تفصيلي كبير في التفاهم).

● حماية لبنان وصيانة استقلاله وسيادته: (في هذه الفقرة) من هنا، فإن حمل السلاح ليس هدفاً بذاته وإنما وسيلة شريفة مقدّسة تمارسها أي جماعة تُحتلّ أرضها تماماً كما هي أساليب المقاومة السياسية…

(وتكون) حماية لبنان من الأخطار الإسرائيلية من خلال حوار وطني يؤدي إلى صياغة استراتيجية دفاع وطني يتوافق عليها اللبنانيون وينخرطون فيها عبر تحمّل أعبائها والإفادة من نتائجها».

أثبت حزب الله من خلال هذا التفاهم استعداده لتحالفات سياسيَّة واسعة، من منطلق مصلحة الوطن وحماية سيادته واستقلاله، وهو بهذا التفاهم مع أكبر حزب مسيحي أعطى بُعداً وطنيّاً مهماً لمقاومة العدو الصهيوني، وراكم رصيداً داخليّاً مؤثِّراً في مواجهة التَّبعية للغرب والعزلة الدَّاخليَّة. لقد تحوَّل هذا التفاهم إلى مضرب مثل عن انفتاح حزب الله وواقعيته السياسيَّة ومقبولية مشروعه المقاوم. هذه النتائج هي وليدة الخط الذي نؤمن به، والمشروع المقاوم الذي ضحَّينا لأجله، وقد كانت الانتصارات هي مؤشر النجاح في مقابل فشل المناوئين واللاهثين خلف أميركا.

النظام الطائفي خللٌ بنيوي في النظام اللبناني، ويولِّد الأزمات كما أثبت تاريخ لبنان منذ الاستقلال، وقد حصلتْ حربٌ أهلية خطيرة ومريرة لخمسة عشر عاماً لإجراء بعض التعديلات على نظامه بلحاظ حصص وحقوق الطوائف، فيما أصبح معروفاً بـ«اتفاق الطائف» عام 1989. ولو تابع اللبنانيون تطبيق الطائف لكان أفضل، والحزب مع متابعة التطبيق.

ولكن، هل يمكن تغيير النظام الطائفي للتَّخلص من الخلل البنيوي؟ إذا كان بعض التعديل تطلّب خمسة عشر عاماً من الاقتتال الداخلي، فهل التَّغيير الجذري له قابلية هادئة؟! فضَّلَ الحزب أن لا يغرق في نظريات لعن النِّظام والمطالبة بتغييره لاعتبارات شعبوية، حيث لا وجود لطرح منطقي مناسب -حتى الآن- لمناقشته والتوافق عليه. والأفضل أن يعمل ويُعالج مكامن الخلل العملي في مخالفة الدستور والقوانين، واستحداث أعراف محل القوانين، وإساءة استخدام السلطة في مواقع النظام المختلفة، وأن يواجه الفساد في سوء الإدارة واستغلال الصلاحية وسرقة المال العام وسوء أداء الوظيفة وكل أشكال الفساد في البلد، وأن ينصرف الجميع إلى قضايا النَّاس الاجتماعية والاقتصادية والماليَّة والتربوية والصحية ضمن خطط واستراتيجيات تنقلنا من رد الفعل الآنيّ إلى خطواتٍ مدروسة، وأن يُخطِّط لنظام الإنتاج في الزراعة والصناعة والعلم والسياحة… لا نظام الريع الاستهلاكي.

وماذا عن تعديلات محدودة في الطائف، لتعديل بعض الصلاحيات؟ ليس لدى الحزب طرحٌ في هذا المجال، ولا يعتقد أن المشكلة في الصلاحيات بل في التطبيق للطائف، ولكنَّه منفتح على النقاش فيما لو تقدّمت أيّ جهة بفكرة ضمن الإطار الدستوري والقانوني ليكون النقاش والإقرار والرفض بحسب الأصول الدستورية والقانونية المعتمدة.

اعتمد حزب الله منظومة خدماتية ذاتية واسعة، فخدمةُ النَّاس جزءٌ لا يتجزّأ من الإيمان الدِّيني، قال تعالى: «لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا». وفي الحديث النَّبوي الشريف: «الخلقُ كلُّهم عيالُ الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعُهم لعياله». يُنفقُ الحزب من أموال الخُمس والصَّدقات والتَّبرعات والمساهمات من أهل الخير، ومن بعض الموازنات الحزبية، لمساعدة الفقراء والمحتاجين، بل ومساعدة عموم النَّاس في الحاجات الأساسية كتأمين مياه الشُّرب في خزّانات مشروع العباس (ع) في الأحياء والقرى. ويعمل جهاد البناء في دعم المزارعين لتربية النَّحل والمواشي وتقديم الشتول والأسمدة والإرشاد الزراعي. وتُقيم الهيئة الصحية الإسلامية المستوصفات والإسعافات النَّقالة وتؤمِّن المعاينات الطبية والأدوية مجاناً أو بأسعار زهيدة. وتُقدِّم جمعية إمداد الإمام الخميني (قده) المساعدات المالية والعينية والتَّربوية والصحيَّة للعوائل الفقيرة. ويهتمّ العمل الاجتماعي في حزب الله في كل قرية وحي بتقديم الوجبات الساخنة من مائدة الإمام زين العابدين (ع) والحصص التموينية، وكذلك يؤمِّن التجهيزات المنزلية والترميم والطلاء لبعض بيوت العائلات الأشد فقراً، والمساعدات التَّربوية بتأمين المنح المدرسية ومساعدة المعلمين وصناديق التعاضد. والكثير الكثير من المساعدات في الأبواب المختلفة وأحدثها بطاقة السجّاد التي يشتري المواطن من خلالها بأسعار مُخفَّضة. ومشروع المازوت الإيراني الذي تمّ توزيعه وقت فقدانه من الأسواق بأقلّ من سعر السوق لكلِّ المناطق اللبنانية. وقد حشد حزب الله عشرين ألفاً من المتطوّعين والمتطوّعات من الأطباء والممرّضين والممرّضات والشباب الجامعي والعاملين في أجهزة الحزب أو معها لمواجهة داء «كورونا».

مساعدةُ حزب الله الاجتماعية والصحيَّة والتَّربوية… ليست موسميَّة، بل هي على مدار السنة، وعلى مدار حركة حزب الله خلال الأربعين ربيعاً، تزداد يوماً بعد يوم، وتشمل أعداداً أكثر يوماً بعد يوم. هذه المساعدات هي لبلسمة الجراح، وتقديم الخدمة الآنيَّة، وهي تُحاول أن تسدّ بعض النقص بسبب التقصير الفادح للدولة، ويصرِّح حزب الله دائماً بأنَّ هذه المسؤولية تقع على الدَّولة بالأصل لتأمين مواطنيها، والحزب ليس بديلاً عن الدَّولة لا في هذه الأمور ولا في غيرها، ولن يسعى ليكون بديلاً، بل لا يريد أن يكون بديلاً. يجب أن تتحمل الدولة مسؤولياتها تجاه النَّاس، ولن يتخلى الحزب عن واجبه في مساعدتهم لاعتبارات دينية وإنسانية وأخلاقية.

يُعتبر حزب الله الحزب الأقوى في لبنان عدداً وعُدَّة وتنظيماً وانتشاراً وخدمة… وهو يستفيدُ من قوَّته في محلها، فقوَّةُ مقاومته ضدَّ إسرائيل للتَّحرير والحماية ولا علاقة لها بتوازنات القوى في الدَّاخل. وقوَّةُ شعبيته ظهرت في التأييد الواسع في الانتخابات التي أنتجت حضوراً وازناً للحزب في المجلس النيابي. وقوَّةُ إمكاناته يُسخِّرها لخدمات النَّاس وبلسمة جراحاتهم. وقوَّةُ منطقه ومكانته يستفيد منهما لبناء التحالفات التي تخدم مصلحة الوطن والمواطن. ومستوى شبابه وشاباته المتخصّصين والواعين هو في خدمة أدوارهم داخل المجتمع والدَّولة. فنوابُ حزب الله نموذجٌ للعمل الدؤوب والتحضير الجيد للقوانين قبل إقرارها، وحملِ هموم المناطق والنَّاس الذين يمثّلونهم، وهم يعيشون حياتهم بشكل عادي وطبيعي، لم تُغيِّرهم النيابة، ولا يأخذون منها مكتسبات ماديَّة أو ذاتية. ووزراء حزب الله نموذجٌ لنظافة الكفّ وخدمة جميع المناطق وجميع المواطنين، وهم يمتلكون كفاءة التَّخطيط والإدارة، ولهم بصمتهم في الوزارات أينما حلّوا.

لا يستثمر حزب الله قوَّتَه في المجالات المختلفة للسيطرة، ولا يريدها. نعم، يتَّهمه أخصامه وأعداؤه بأنَّه المسيطر على البلد لأنَّه الأقوى! وهذا غير صحيح، تبدِّده الوقائع، فهو يعمل وفق القوانين والأنظمة، ينجح في مجالات، ولا يُحقِّق قناعاته في مجالات أخرى لوجود الآراء المخالفة. يخوض الانتخابات النيابيَّة كغيره بكلِّ حرية، فيختار النَّاس من يُريدون دون ضغطٍ من أحد.

كرَّر حزب الله في تصريحات مسؤوليه بأنَّ تحالفاته مع الآخرين سياسيَّة، ولا يتحمل أيّ مسؤولية عن أدائهم في الملفات المختلفة، كما لا يتحملون أيّ مسؤولية عن أدائه. وهو في تحالفاته يتفق ويختلف، وهو ليس في موقع الفرض والآمرية، وبالتالي فمسؤولية الأداء للحزب أو لغيره تكون مختصّة بمن يقوم بالعمل.

أزماتُ لبنان متعدّدة الأسباب وعلى رأسها الأداء الأميركي الظَّالم ضد لبنان، من خلال العقوبات على النِّظام المصرفي وعلى كلِّ لبنان، ومنع الاستثمارات فيه، والتعتيم المقصود ليُفاقم أزمته في الكهرباء، وهو يدعم مجموعات من المنظمات غير الحكومية من خلال سفارة أميركا في لبنان لتخريب البلد وثقافته وسياسته وإحداث الفوضى فيه، وهو يفرض إبقاء النازحين السوريين كعبء اقتصادي واجتماعي على لبنان لاستثماره السِّياسي ضد سوريا، وقد دعم المجموعات التكفيرية بشكل واسع حتى كادت أن تحتلَّ قسماً من شرق لبنان في البقاع والشمال، ولكن نصرنا الله تعالى ببركة الجيش والشعب والمقاومة في التَّحرير من التكفيريين عام 2017.

لا تترك أميركا فرصة ولا مجالاً لهيمنة إسرائيل وتكريس عدوانها إلَّا وتنتهزها، وآخرها منع لبنان من استخراج نفطه وغازه، وإعطاء كل التسهيلات للعدو الإسرائيلي. حزب الله يعتبر أميركا معادية للبنان وليس لحزب الله فقط.

لا مشكلة للحزب في الانفتاح على جميع الدول الأخرى عربية أو أجنبية على قاعدة سيادة لبنان، والتعاون النِّدِّيّ، وعدم استخدام لبنان منصَّة أو قاعدة لتصفية الحسابات أو استغلال جماعاته.

أربعون ربيعاً حافظ فيها الحزب على مبادئه الأصيلة، وطوَّر كثيراً في أساليب عمله، وواكب تطورات المراحل المختلفة، وتكيَّف معها بأداءٍ ينسجم مع متطلّبات كلِّ مرحلة على قاعدة الثبات على عقيدة الإسلام، وأولوية المقاومة، والعمل السياسي البنَّاء لحماية مشروع المقاومة وخدمة النَّاس في قضاياهم، وبناء أوسع التحالفات للتعاون مع كلِّ من يريد مصلحة البلد.

الأربعون ربيعاً حسمت سلامة الطريق، والانتصارات المتتالية، وقابلية الاستمرار، ومدى الالتفاف الشعبي، وقبل كل ذلك توفيقُ الله تعالى وتأييده. فإلى المزيد بإذن الله تعالى، وإلى الأفضل في مستقبل أكثر إشراقاً.

نائب الأمين العام لحزب الله

“الاخبار”اللبنانية