توقّفت ملياً أمام مداخلة للزميل والباحث الاستراتيجي العميد (ناجي ملاعب) ، التي تضمّنت مواقف تنم في آن عن الألم الذي يشعر به هو، ونشعر معه جميعاً، من استمرار تخبط شعوبنا في لجج التأخر والفساد ونوازع ما قبل الحداثة وما قبل الانتماء الوطني.
لا أختلف مع العميد بالطبع حول مسألة كوننا لا زلنا حتى الآن قُصّر ومراهقين على مستوى الانتماء الوطني، ما يبرر برأيه لجوءنا إلى الحضارة الغربية (وليس الاستعمار كما قال) في مجالات حقوق الانسان والديمقراطية والشفافية. لكني أرفض أن نبقى في هذا الموقع ونؤبّده بكونه أمراً بديهياً أو لا مناص منه، لأنه يعني ببساطة أنه من غير المسموح لنا كقُصّر أن نرفض كوننا سلعة يتملكّها تملكاً حقيقياً أمراء الطوائف، تماماً كما كان اقطاعيو أوروبا يتملكون أجساد وعقول الفلاحين وليس فقط قوة عملهم. كما من الممنوع علينا كمراهقين أن نرفض تدخلات إيران وتركيا وإسرائيل وفرنسا وأميركا وروسيا وباقي أمم العالم في شؤوننا الداخلية.
ليس هذا هدفي في هذه المداخلة الحديث عن هذه المسألة، على رغم أهميتها القصوى لأنها تمس ما هو إنساني فينا: الكرامة الوطنية واحترام الذات. هدفي هو الملاحظة التي أبداها العميد في آخر مداخلته حين قال: “في الخلاصة، ينبغي فتح الباب على منجزات حققتها مفاهيم حديثة لعالم جديد، بدلاً من التغنّي بحضارة الخمسة آلاف سنة”.

أرجو أن يسمح لي العميد العزيز أن أسجّل هنا اعتراضي الشديد على هذه الخلاصة:
فالمرجعية الحضارية التاريخية لأي مجتمع وهويته الثقافية والانماط التي أفرزتها المسيرة التاريخية على التنظيمات المجتمعية وخارجه، هي معطيات ثابتة في معادلات القوة لأي بلد كما يعرف الاستراتيجيون. وعلى الرغم من أن هذا العنصر (الهوية أو المرجعية التاريخية ) يدخل ضمن المعطيات الثابتة، إلا أنه يلعب من جهة أخرى دور المحرّك لمعطيات القوة المتغيرة. فالمجتمعات التي تمتلك هوية قوية وحساً مرجعياً تاريخياً ناجمين عن فهم مشترك لعاملي الزمان والمكان، كما تمتلك ثقافة تاريخية تستطيع من خلالها تحريك العناصر النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يمكنها أن تحقق انفتاحات استراتيجية متجددة باستمرار. وفي المقابل، المجتمعات التي تدير الظهر لتاريخها، ، تقع في حفرة من الانغلاق الاستراتيجي وتأبيد التخلّف.
ثمة هنا بحث علمي رائع للمفكر لايونغ Laong عنوانه الشخصية المنفصمة The divided self يرتبط بموضوع
الهوية والوعي التاريخي اللتين يؤدي التناقضات بينهما إلى عدم كفاءة النظرية الاستراتيجية، تقول هذه النظرية أن مصدر الأزمات النفسية لدى الفرد كما لدى الشعوب هو انقطاع الرابط بين جسد الانسان وشخصيته، ما يسفر عن انفصام الشخصية. فالشخص الذي يتغّرب عن جسده يفقد عناصر استمرار شخصيته مع مرور الزمن ويحاول إدراك ذاته بشخصية مزوّرة. وتزداد مشاكله كلما ازدادت الهوة بين شخصيته الداخلية وشخصيته المنعكسة خارجا ليدخل في أزمة مع نفسه ومع محيطه.
أي: حين تتغرّب المجتمعات عن “جسدها “، أي عمقها التاريخي والمكاني، تخلق شخصية مزورة وتنفصم شخصيتها.
من الصعب للغاية عميد ناجي على مجتمع ضعيف الوعي وضعيف الذاكرة التاريخية أن يترك بصمته ويخط كيانه على مسرح التاريخ، حيث أن نوعية الإدراك التاريخي لأي مجتمع تعتبر الفارق الأكبر بين المجتمعات الفاعلة التي تمتلك طموحات التأثير على المجرى التاريخي وبين المجتمعات السلبية الواقعة تحت تأثير الغير.
الروح الحضارية المشرقية هي التي انتجت طيلة خمسة آلاف سنة كل جل الحضارات العالمية وكل الأديان التوحيدية: من الفرعونية والسومرية والحيثية والفينيقية إلى الفارسية والهيلينية والرومانية والمسيحية والاسلام. والآن بات مطلوباً، وبإلحاح، في عصر العولمة إعادة إكتشاف هذه الروح الحضارية المشرقية الجديدة، وتوظيفها لمعانقة الحاضر والمستقبل واستئناف دورها العالمي.
ثم أن المجتمعات صاحبة الوعي والذاكرة التاريخية العميقة، لاتعطي لخطابات المجد المبالغ فيها أو النفسيات المحبطة أي قيمة، وتبني علاقة ذات معنى بين أشكال القوة الحقيقية بالتخطيط العقلاني الاستراتيجي، من خلال المعطيات التي توفرها لها الخبرة التاريخية وتنقش مستقبلها بحساسية ودقة. أما المجتمعات ضعيفة الوعي والذاكرة التاريخية والسلبية فلا تستطيع اتخاذ القرارات الاستراتيجية وتبقى أسيرة الاحباطات الهزائم واليأس .. والمراهقة.
ما المطلوب إذا؟
المطلوب من الوطنيين اللبنانيين ببساطة أن يتذكّروا “من نحن” في التاريخ وهو ينظرون إلى المستقبل. أن يروا الماضي وهو يتطلعون إلى الغد. ببساطة: أن يخلقوا “الماضي الجديد” والهلنستية الجديدة، خاصة في عصر العولمة المادية المطلقة والتكنولوجية الرابعة الهائلة اللتين لن يصمد في وجههما سوى من يمتلك الهوية الحضارية والتاريخية المتجددة.